الإخوان المسلمون في أوروبا- مشروع أيديولوجي يخترق الديمقراطية.
المؤلف: وفاء الرشيد09.12.2025

منذ أواسط القرن الماضي، شرعت جماعة الإخوان المسلمين في مد نفوذها وتوسيع رقعة تأثيرها داخل المجتمعات الأوروبية، لا بصفتها مجرد جماعة دينية لاجئة، بل ككيان أيديولوجي متكامل الأركان يسعى إلى تحقيق أهداف بعيدة المدى...
لقد استثمرت الجماعة بذكاء المناخ الذي يسوده التسامح والحريات في القارة الأوروبية، وبخاصة حرية التعبير والمعتقد، لإنشاء بنية تحتية دعوية ضخمة، تتخذ في ظاهرها شكل الوعظ والإرشاد الديني، وتخفي في باطنها مساعي حثيثة للتمكين السياسي والاجتماعي. لم يكن التغلغل السياسي للإسلاميين في الساحة الأوروبية وليد الصدفة، بل تم وفق خطة محكمة ومنهجية دقيقة، مستندة إلى فهم عميق للثغرات القانونية واستغلال البيئة السياسية الأوروبية...
بريطانيا وفرنسا، نظرًا لتراثهما الاستعماري وموقعهما المتميز في حقبة الحرب الباردة، كانتا من أوائل الدول التي فتحت أبوابها للجماعة، مدفوعة بحسابات استخباراتية في بعض الأحيان، أو بسذاجة ليبرالية في أحيان أخرى.
في عقد الخمسينيات من القرن العشرين، استقبلت لندن بحفاوة شخصيات إخوانية مرموقة كانت هاربة من قمع الأنظمة التي نشأت بعد الاستقلال، وعلى رأس هؤلاء سعيد رمضان، صهر حسن البنا وأحد أبرز العقول المدبرة للتوسع الإخواني في الغرب... مما جعل بريطانيا الوجهة الأولى والمفضلة لهم...
أسس رمضان في جنيف آنذاك «المركز الإسلامي» تحت ستار أوروبي، واستخدمه كقاعدة انطلاق لإنشاء شبكة علاقات واسعة النطاق مع مختلف الدوائر الغربية، وبشكل خاص خلال فترة الحرب الباردة.
فيما بعد، ظهرت شخصيات أخرى ذات تأثير كبير، مثل كمال الهلباوي، المتحدث الرسمي السابق باسم جماعة الإخوان في أوروبا، وعزام التميمي، الذي تولى قيادة واجهات فكرية وإعلامية تابعة للإخوان في لندن، من بينها قناة «الحوار» وصحيفة «الرائد».
هؤلاء القادة وغيرهم بذلوا جهودًا كبيرة في ترسيخ خطاب إخواني يتسم بالنعومة واللين، ويتماشى ظاهريًا مع القيم الغربية السائدة، بينما يعمل في الخفاء على بناء مشروع أيديولوجي موازٍ.
منحت السلطات البريطانية جماعات إسلامية السيطرة على مراكز إسلامية كبرى، مثل مسجد فينسبري بارك، الذي تحول فيما بعد إلى منبر لترويج خطاب متشدد تحت إشراف الإمام أبو حمزة المصري، ثم ارتبط لاحقًا بشخصيات أكثر تطرفًا مثل أنجم شودري... وعلى الرغم من هذه المؤشرات الخطيرة، استمر التعامل الرسمي بتساهل كبير، بحجة دعم «الاندماج والتعددية».
أما في فرنسا، فقد سادت حالة من الاختراق للعلمانية والتواطؤ الميداني!! فعلى الرغم من تشدد النموذج العلماني الفرنسي، إلا أن فرنسا وقعت في الفخ ذاته... فبعد تدفق موجات الهجرة المغاربية، لجأت الدولة إلى التعاون مع جماعات إسلامية منظمة، وعلى رأسها اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (UOIF)، الذي أسسه الشيخ فؤاد العبدلي، والذي احتضن لاحقًا شخصيات مثل عمار لازار وطارق أوبرو، اللذين قدما نفسيهما كتيار «إسلامي وسطي»، في حين أنهما كانا مرتبطين أيديولوجيًا بجماعة الإخوان.
ومن بين الشخصيات البارزة التي أثارت جدلاً واسعًا: طارق رمضان، حفيد حسن البنا، والأستاذ السابق بجامعة أكسفورد... وعلى الرغم من القضايا الأخلاقية التي لاحقته لاحقًا، إلا أنه ظل يُقدم كرمز «للإسلام الأوروبي المعتدل» لسنوات طويلة، وكان له نفوذ كبير في الأوساط الجامعية والإعلامية الفرنسية.
تجلى تواطؤ بعض الأجهزة الأمنية الفرنسية بشكل واضح في تمكين هذه الشخصيات من التمثيل في المجالس المحلية، بل وتسهيل مشاركتهم في «الانتخابات البلدية»، كجزء من استراتيجية تهدف إلى «تهدئة الضواحي»، والتي تحولت عمليًا إلى تفويض سياسي غير خاضع للرقابة.
وبالتوازي مع ما كان يحدث على أيدي جماعة الإخوان، كان التطرف يتسلل من ألمانيا إلى قلب أوروبا!! ففي الوقت الذي كانت فيه جماعة الإخوان تتوسع، بدأ التطرف ينتشر انطلاقًا من ألمانيا، حيث ظهرت شخصيات مثل بيير فوغل (Pierre Vogel)، الداعية الألماني الذي لعب دورًا حاسمًا في نشر الفكر المتطرف بين الشباب، خاصةً ذوي الأصول المهاجرة... وقد أشعل خطابه التحريضي وعباراته الجهادية حماس شريحة كبيرة من المهاجرين، وسط غياب خطاب ديني معتدل من الدولة.
انتقلت هذه الموجة المتطرفة لاحقًا إلى بلجيكا (عبر جمعية الشريعة لبلجيكا)، والنمسا، وهولندا، لتجد أرضًا خصبة في المناطق التي تعاني من هشاشة اجتماعية، حيث غاب دور الدولة وحضرت الأيديولوجيا المتطرفة..
اليوم، نحن لا نتحدث عن اختراق عابر، بل عن ثلاثة أجيال متعاقبة من الإخوان نشأت وترعرعت داخل أوروبا: الجيل الأول من اللاجئين والمنظرين، والجيل الثاني من أبناء المهاجرين الذين تلقوا تعليمهم في المؤسسات الأوروبية، والجيل الثالث -وهو الأخطر- الذي يحمل الجنسية الأوروبية، ويتحدث لغتها بطلاقة، ويشارك في مؤسساتها، لكنه يعمل ضمن مشروع فكري يتجاوز حدود الدولة القومية..
لقد دفعت أوروبا -ولا تزال تدفع- ثمنًا فادحًا لتجاهلها الفارق الجوهري بين الإسلام كعقيدة سمحة، والإسلام السياسي كمشروع يسعى إلى السلطة والنفوذ... فقد سلمت المساجد والمراكز الإسلامية لمنظمات تتبنى أيديولوجيات تعادي قيم الديمقراطية من الداخل، واكتفت بالمراقبة الشكلية دون محاسبة حقيقية.
اليوم، تبرز الأسئلة بإلحاح: من يسيطر على إنتاج الخطاب الديني الموجه للمسلمين في أوروبا؟ من يقوم بتشكيل وعي الأجيال المسلمة الصاعدة في أوروبا؟ وهل يمكن لنظام ديمقراطي يُستغل من الداخل أن يصمد في وجه مشروع يستهدف تقويضه من خلال استغلال أدواته؟
الدولة غائبة عن المشهد، والإسلاميون المتطرفون هم من يقودون دفة الأمور...
لقد استثمرت الجماعة بذكاء المناخ الذي يسوده التسامح والحريات في القارة الأوروبية، وبخاصة حرية التعبير والمعتقد، لإنشاء بنية تحتية دعوية ضخمة، تتخذ في ظاهرها شكل الوعظ والإرشاد الديني، وتخفي في باطنها مساعي حثيثة للتمكين السياسي والاجتماعي. لم يكن التغلغل السياسي للإسلاميين في الساحة الأوروبية وليد الصدفة، بل تم وفق خطة محكمة ومنهجية دقيقة، مستندة إلى فهم عميق للثغرات القانونية واستغلال البيئة السياسية الأوروبية...
بريطانيا وفرنسا، نظرًا لتراثهما الاستعماري وموقعهما المتميز في حقبة الحرب الباردة، كانتا من أوائل الدول التي فتحت أبوابها للجماعة، مدفوعة بحسابات استخباراتية في بعض الأحيان، أو بسذاجة ليبرالية في أحيان أخرى.
في عقد الخمسينيات من القرن العشرين، استقبلت لندن بحفاوة شخصيات إخوانية مرموقة كانت هاربة من قمع الأنظمة التي نشأت بعد الاستقلال، وعلى رأس هؤلاء سعيد رمضان، صهر حسن البنا وأحد أبرز العقول المدبرة للتوسع الإخواني في الغرب... مما جعل بريطانيا الوجهة الأولى والمفضلة لهم...
أسس رمضان في جنيف آنذاك «المركز الإسلامي» تحت ستار أوروبي، واستخدمه كقاعدة انطلاق لإنشاء شبكة علاقات واسعة النطاق مع مختلف الدوائر الغربية، وبشكل خاص خلال فترة الحرب الباردة.
فيما بعد، ظهرت شخصيات أخرى ذات تأثير كبير، مثل كمال الهلباوي، المتحدث الرسمي السابق باسم جماعة الإخوان في أوروبا، وعزام التميمي، الذي تولى قيادة واجهات فكرية وإعلامية تابعة للإخوان في لندن، من بينها قناة «الحوار» وصحيفة «الرائد».
هؤلاء القادة وغيرهم بذلوا جهودًا كبيرة في ترسيخ خطاب إخواني يتسم بالنعومة واللين، ويتماشى ظاهريًا مع القيم الغربية السائدة، بينما يعمل في الخفاء على بناء مشروع أيديولوجي موازٍ.
منحت السلطات البريطانية جماعات إسلامية السيطرة على مراكز إسلامية كبرى، مثل مسجد فينسبري بارك، الذي تحول فيما بعد إلى منبر لترويج خطاب متشدد تحت إشراف الإمام أبو حمزة المصري، ثم ارتبط لاحقًا بشخصيات أكثر تطرفًا مثل أنجم شودري... وعلى الرغم من هذه المؤشرات الخطيرة، استمر التعامل الرسمي بتساهل كبير، بحجة دعم «الاندماج والتعددية».
أما في فرنسا، فقد سادت حالة من الاختراق للعلمانية والتواطؤ الميداني!! فعلى الرغم من تشدد النموذج العلماني الفرنسي، إلا أن فرنسا وقعت في الفخ ذاته... فبعد تدفق موجات الهجرة المغاربية، لجأت الدولة إلى التعاون مع جماعات إسلامية منظمة، وعلى رأسها اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (UOIF)، الذي أسسه الشيخ فؤاد العبدلي، والذي احتضن لاحقًا شخصيات مثل عمار لازار وطارق أوبرو، اللذين قدما نفسيهما كتيار «إسلامي وسطي»، في حين أنهما كانا مرتبطين أيديولوجيًا بجماعة الإخوان.
ومن بين الشخصيات البارزة التي أثارت جدلاً واسعًا: طارق رمضان، حفيد حسن البنا، والأستاذ السابق بجامعة أكسفورد... وعلى الرغم من القضايا الأخلاقية التي لاحقته لاحقًا، إلا أنه ظل يُقدم كرمز «للإسلام الأوروبي المعتدل» لسنوات طويلة، وكان له نفوذ كبير في الأوساط الجامعية والإعلامية الفرنسية.
تجلى تواطؤ بعض الأجهزة الأمنية الفرنسية بشكل واضح في تمكين هذه الشخصيات من التمثيل في المجالس المحلية، بل وتسهيل مشاركتهم في «الانتخابات البلدية»، كجزء من استراتيجية تهدف إلى «تهدئة الضواحي»، والتي تحولت عمليًا إلى تفويض سياسي غير خاضع للرقابة.
وبالتوازي مع ما كان يحدث على أيدي جماعة الإخوان، كان التطرف يتسلل من ألمانيا إلى قلب أوروبا!! ففي الوقت الذي كانت فيه جماعة الإخوان تتوسع، بدأ التطرف ينتشر انطلاقًا من ألمانيا، حيث ظهرت شخصيات مثل بيير فوغل (Pierre Vogel)، الداعية الألماني الذي لعب دورًا حاسمًا في نشر الفكر المتطرف بين الشباب، خاصةً ذوي الأصول المهاجرة... وقد أشعل خطابه التحريضي وعباراته الجهادية حماس شريحة كبيرة من المهاجرين، وسط غياب خطاب ديني معتدل من الدولة.
انتقلت هذه الموجة المتطرفة لاحقًا إلى بلجيكا (عبر جمعية الشريعة لبلجيكا)، والنمسا، وهولندا، لتجد أرضًا خصبة في المناطق التي تعاني من هشاشة اجتماعية، حيث غاب دور الدولة وحضرت الأيديولوجيا المتطرفة..
اليوم، نحن لا نتحدث عن اختراق عابر، بل عن ثلاثة أجيال متعاقبة من الإخوان نشأت وترعرعت داخل أوروبا: الجيل الأول من اللاجئين والمنظرين، والجيل الثاني من أبناء المهاجرين الذين تلقوا تعليمهم في المؤسسات الأوروبية، والجيل الثالث -وهو الأخطر- الذي يحمل الجنسية الأوروبية، ويتحدث لغتها بطلاقة، ويشارك في مؤسساتها، لكنه يعمل ضمن مشروع فكري يتجاوز حدود الدولة القومية..
لقد دفعت أوروبا -ولا تزال تدفع- ثمنًا فادحًا لتجاهلها الفارق الجوهري بين الإسلام كعقيدة سمحة، والإسلام السياسي كمشروع يسعى إلى السلطة والنفوذ... فقد سلمت المساجد والمراكز الإسلامية لمنظمات تتبنى أيديولوجيات تعادي قيم الديمقراطية من الداخل، واكتفت بالمراقبة الشكلية دون محاسبة حقيقية.
اليوم، تبرز الأسئلة بإلحاح: من يسيطر على إنتاج الخطاب الديني الموجه للمسلمين في أوروبا؟ من يقوم بتشكيل وعي الأجيال المسلمة الصاعدة في أوروبا؟ وهل يمكن لنظام ديمقراطي يُستغل من الداخل أن يصمد في وجه مشروع يستهدف تقويضه من خلال استغلال أدواته؟
الدولة غائبة عن المشهد، والإسلاميون المتطرفون هم من يقودون دفة الأمور...